عبد الهادي عباس يكتب:  فن تربية البنات.. أوربا تلميذة في مدرسة الموصلي! 

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس


ليتهم أعطونا مثلما أخذوا.. هذا ما تُحدثني به نفسي إذا قرأت عن علــــم كان فضل نشأته إلى العرب والمسلمين الأوائل الذين أسهموا في كل فن، ولهم باع في كل علم؛ ذلك لأنهم يرتكزون على أساس صُلب متين يأخذون منه حكمتهم العقلية والروحية، ذلك هو القرآن الكريم وسُنة رسول الله المطهرة، والفهم عنهما بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وليس القشور التي تأخذها عقولٌ صلدة كالحجارة أو أشد قسوة، مما أفرز في النهاية أشباه مسلمين يسعون إلى الفُرقة والتشرذم بكل سبيل، ويبتعدون عن كل ما يدعو إلى التقدم، مما صوَّر الإسلام بصورٍ هي أبعد ما تكون عن جوهره الذي ارتضاه الله لنا.
كل ذلك في الوقت الذي اهتبل فيه الغرب علومنا وأكبَّ عليها درسًا وتحصيلًا وفهمًا وتطويرًا فأنتج أناسًا يفقهون تعاليم الإسلام ورجاله الأوائل وإن كانوا غير مسلمين؛ فلنرجع إلى هناك لنتنسم نفحات ذلك العصر الذهبي:
إنها بغداد.. المدينة الزاخرة بكل العلوم والفنون، بناها أبو جعفر المنصور وبعد مدة قصيرة من بنائها أصبحت عروسًا للأقطار الإسلامية والأوروبية على السواء، فلم يكن على وجه الأرض مدينة أكثر جمالًا وأبهة منها؛ انتشرت فيها المدارس العلمية والأدبية والفنية بجوار المدارس الفقهية والمذاهب الدينية، بل انتشرت بها البساتين، جلبوا أشجارها  من كل الأقطار واختاروا منها ما يصلح لجو بغداد، وعرفوا موسم كل نبتةٍ وكل شجرة، وانتشرت بينهم الزهور، حتى أصيب أهلها بالغرور والدلال، حتى قالوا: فلان تبغدد، أي تلطف وترقق.. فهي بحق كما قال المؤرخون: "هواء رقيق وعلم دقيق وكل صيد بها وكل حسن فيها وكل حاذق منها، وكل قلب إليها وكل حربٍ عليها"؛ وهي- أيضًا- مدينة الموصلــــي.
بلغ الموصلي، المؤدب والمُطرب أوجَه في عصر هارون الرشيد، فوضع الكتب في فنون التأدب ومُعاملة الخلفاء، خاصة من الفتيات، وإن كان الموصلي يهدف بهذا في الأساس إلى تهذيب الجاريات في قصر الخليفة إلا أن المبادئ التي وضعها في كُتبه لا يُمكن التغافل عنها خاصة في الوقت الحاضر الذي نُنفق فيه الملايين على أساتذة فن الإتيكيت من أوروبا وأمريكا، بل ونستورد عشرات الحلقات التلفزيونية ومئات الكتب في فنٍّ ابتدعناه وأصبحنا روَّاده وأول المُبدعين فيه منذ أكثر من ألف عام.
فنون الإتيكيت
كان الموصلي يُعلم الفتيات الدُّروس في ألوانِ الملابسِ ومُناسباتِها للحفلاتِ، ومُناسبةِ بعضِها لبعضٍ؛ ومناسبتها للنعال، وفيما يصلح أن يُنقش على الخواتيم والفصوص؛ ودروسًا في التعطر والتطيب وتصفيف الموائد والأطعمة وكيفية الأكل، من وجوب تصغير اللقم، والتَّحَرُّز من الشَّرَه، وعدم تلطيخ الأصابع، وعدم تجاوز ما بين أيديهن، وعدم إفساد رائحتهن بأكل الثوم والبصل، وعدم التخلل على المائدة قبل أن تفرغ؛ ودروسًا أخرى في الزهور والورود وكيف يُنظم في طاقات، وكيف يتحدثن فيُحسِنَّ الحديث، وكيف يجب ألا يُداخلن أحدًا في حديثهِ، ولا يتطلعن إلى مكتوبٍ يقرؤه قارئ، ولا يقطعن على مُتكلمٍ كلامه، ولا يُحاولن أن يستمعن إلى أحد يتحدَّث في سر، ولا يتثاءبن في المجلس ولا يتمطين، ولا يمددن أرجلهن، ولا يمسسن أنوفهن بأيديهن؛ ثم يُعلمهن أنهن إذا أهدين أهدين الشيء اللطيف الخفيف.. وعلى الجُملة كان يعلمهن أصول فن الإيتكيت الحديث الذي إن أصبحت فيه باريس الآن هي الرائدة، فقد كانت بغداد النَّبع الذي سقى العالم كله.
والسؤال الآن: هل تقوم كلُّ أمٍّ بواجبها تجاه بناتها منذ الصغر وحتى سن الزواج وتعليمهن هذه الأصول والمبادئ التي هي أساسٌ في أخلاق العرب ووجهٌ مُهِمٌّ من جمال المرأة العربية؟! ثم لو أن لدينا زوجة تمتلك هذه المهارات والآداب أكانت ستوجد تلك النسبة الهائلة في حالات الطلاق ودمار أسَر بأكملها، بل والعداوة بين العائلات بسبب حالة طلاق أساسها أن المرأة لا تتمتع ببعض من هذه الآداب؟! فبأي حديثٍ بعد هذا يُنادي بعضُ الجُفاةِ بطمسِ تُراثنا العربي ودفنهِ في غيابات التاريخ؟!!